مقدمــة :
إن جهاز القضاء بمقتضى الدستور الجديد للمملكة لسنة 2011 أصبح يشكل سلطة ثالثة داخل الدولة إلى جانب السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية, بحيث أصبحن يشكلن ثالوثا واحدا مستقلا ومتكاملا لا يطغى أحد أجزاءه على باقيه, بحيث لا تتدخل أي من السلطات المذكورة في اختصاصات السلطة الأخرى, خصوصا عدم جواز تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في عمل السلطة القضائية...
إن مبدأ استقلال السلطة القضائية أصبح يحظى بأهمية نظرية وعملية بالغة وذلك لانتشار فلسفة حقوق الإنسان وتأسيس أسس المحاكمة العادلة, بل الأكثر من ذلك كون أن القضاء هو الملجأ الأخير للأفراد من اجل ضمان حرياتهم وحقوقهم, وبهذا نرى أن مبدأ استقلال السلطة القضائية فرض نفسه بقوة منذ زمن ليس بالبعيد و حيث أصبح مبدأ مسلما به في جميع الدول الديمقراطية, حيث أصبحت السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمان تختص بسن القوانين والسلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة تدير مرافق الوطن, والسلطة القضائية المتمثلة في المحاكم تفصل بين المتقاضين أفرادا وجماعات بمن فيهم الإدارة نفسها سواء كانت داعية أو مدعى عليها وتنشر الأمن والسلام والاطمئنان بين المواطنين…
إن مبدأ استقلال السلطة القضائية يثير العديد من الإشكالات منها ما هو متعلق بالنص القانوني ومنها ما هو مرتبط بالواقع العملي ,إذن فماذا نقصد بمبدأ استقلال السلطة القضائية؟ وما هي مكانة هذا المبدأ داخل المنظومة الدولية ؟ وما هي تجلياته داخل المنظومة التشريعية المغربية؟ وهل لدينا فعلا سلطة قضائية مستقلة ؟ و ما هي معيقات هذا المبدأ و ما هي الحلول الممكنة للارتقاء به إلى المستوى المطلوب ؟
للإجابة على هاته الإشكالات يقتضينا الأمر تتبع التصميم التالي :
المبحث الأول : مبدأ استقلال السلطة القضائية .
المبحث الثاني : إشكالية استقلال السلطة القضائية بالمغرب و بعض الحلول الممكنة .
المبحث الأول : استقلال السلطة القضائية
مما لا شك فيه أن استقلال السلطة القضائية من بين أحد المفاهيم الأكثر إثارة للجدل و الخلاف,حيث أصبح محط اهتمام للمواثيق الدولية, إضافة إلى أنه أصبح مبدأ أساسيا يكرس داخل المنظومة الدستورية للدول من بينها المغرب, و بهذا سنحاول الحديث عن مفهوم استقلال القضاء (المطلب الأول), و أيضا مكانة استقلالية السلطة القضائية داخل المواثيق الدولية و الدستور المغربي (المطلب الثاني) .
المطلب الأول : مفهوم استقلال السلطة القضائية .
ليس لمفهوم استقلال السلطة القضائية أي تعريف في القوانين الوطنية[1] إلا أننا سنحاول الحديث عن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية (الفقرة الأولى) و استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية .
إن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية يقتضي بالضرورة عدم تدخل السلطة القضائية في عمل السلطة التشريعية و بالمقابل كذلك عدم تدخل السلطة التشريعية في عمل السلطة القضائية باعتبار أن السلطة التشريعية مكلفة دستوريا بسن القوانين ووضعها, وكذا القيام بمراقبة العمل الحكومي عن طريق الأسئلة الكتابية أو الأسئلة الشفوية أو غيرها من الآليات التي و ضعها الدستور لتحقيق هذه المراقبة[2], بينما السلطة القضائية تختص في تطبيق القانون للفصل في المنازعات لحماية الحقوق و الحريات, كما أن لها الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي, و تنفرد أيضا بسلطة البت فيما إذا كانت أي مسالة معروضة عليها للفصل فيها و تدخل في نظام اختصاصها. و في هذا السياق نستحضر تعبير الكاتب الفرنسي مونتسكيو "إن الحرية تنعدم إن لم تكن سلطة القضاء منفصلة عن سلطة التشريع لأن حرية أبناء الوطن و حياتهم تصبحان تحت رحمتها مادام القاضي هو المشرع...".
الفقرة الثانية : استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية.
نفس ما قلناه في الفقرة السابقة عن استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية ينطبق على استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية لأن هذه الأخيرة يتمحور اختصاصها حول إصدار القرارات الإدارية و أيضا الاهتمام بأعمال السيادة, وكذلك وضع السياسة الجنائية لأنها هي التي تسأل عنها أمام ممثلي الأمة[3], و لذلك فلا يمكن لأي شخص يدخل في إطار السلطة التنفيذية و لو لوزير العدل أن يعطي تعليماته للقضاة لإصدار حكم معين في قضية ما أو توجيهاته لتسيير القضية في اتجاه معين, و لا يحق لها أيضا عرقلة تنفيذ أحكام القضاء[4] .و بدورها لا يحق للسلطة القضائية التدخل في أعمال السيادة أو إصدار قرارات إدارية أو توجيه أوامر للإدارة أو الحلول محلها فيما يعتبر من اختصاصها(السلطة التنفيذية)[5].
المطلب الثاني : استقلال السلطة القضائية من خلال المواثيق الدولية و الدستور المغربي.
إن مبدأ استقلال السلطة القضائية يحظى باهتمام دولي متزايد من خلال المواثيق و المعاهدات الدولية (الفقرة الأولى) و أيضا من طرف دساتير مجموعة من الدول و على رأسها الدستور المغربي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية من خلال المواثيق و المعاهدات الدولية.
لقي مبدأ استقلال القضاء اهتماما دوليا ملحوظا نظرا لأن القضاء يلعب دورا أساسيا في إعلاء كلمة القانون و حماية حقوق الإنسان و لذلك كان استقلاله غاية ملحة و مطلبا أساسيا يحظى بالأولوية في جل المواثيق و المعاهدات الدولية, و بهذا سنحاول التطرق لهاته المعاهدات بنوع من الاختصار :
ü الإعلان العالمي حول استقلال العدالة الصادر عن مؤتمر مونريال (بكندا) سنة 1983.
هذا الإعلان جاء في إطار الجهود الدولية الرامية إلى وضع مبادئ و أسس لاستقلال السلطة القضائية, فواضعو هذا الإعلان ضمنوه بمجموعة من المبادئ كان أهمها :
1) وضع تعريف لاستقلال القضاء حيث عرفوه بأنه " حرية القضاء في الفصل في الدعوى دون أي تأثير"
2) التنصيص على أن السلطة القضائية يجب أن تكون مستقلة عن السلطتين التشريعية و التنفيذية.
3) التأكيد على منع ممارسة أي رقابة كيفما كانت على السلطة القضائية[6].
ü مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بشأن استقلال القضاء المعتمدة بقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 32/ 40 في 29 نوفمبر 1985 ورقم 40/146 في 13 دجنبر 1985
هذا المؤتمر جاء بمجموعة من المبادئ الأساسية لاستقلالية القضاء نذكر أهمها :
1) أن الدولة هي التي تكفل استقلال السلطة القضائية حيث أوجب أن يتم النص عنه داخل الدستور أو القوانين الداخلية للبلد.
2) من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة.
3) تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي كما تنفرد بسلطة البث فيها دون تحيز وعلى أساس الوقائع والقانون.[7]
ü المبادئ التوجيهية بشأن المدعين العامين سنة 1990
هذه الوثيقة بدورها تضمنت في معرضها مجموعة من المبادئ ارتكزت مجملها أساسا حول دور النيابة العامة و استقلاليتها و كان عددها-الوثيقة- 24 مبدءا, من أهمها نشير إلى النص على ضرورة أن يكون من يتولون وظائف النيابة العامة ذوي نزاهة و حاصلين على تدريب و مؤهلات يضمن بشكل أو بأخر أدائهم لمهامهم بكل مسؤولية و استقلالية و نصت هذه الوثيقة أيضا على أن من واجب أعضاء النيابة العامة أن يؤدوا مهامهم و واجباتهم وفقا لما هو منصوص عليه في القانون[8].
ü مبادئ بانجلور للسلوك القضائي لسنة 2002.
و هو مشروع مجموعة قواعد بانجلور للسلوك القضائي تم تبنيها من قبل مجموعة النزاهة القضائية لرؤساء المجالس العليا للقضاء, بقصر السلام بلهاي في 25 و 26نونبر 2002, تضمن مجموعة من المبادئ كان أهمها و أسماها مرتبة استقلال القضاء, حيث جاء فيه على أن القاضي يجب أن يمارس مهامه القضائية بصورة مستقلة, كما أن على القاضي أن يكون مستقلا عن المجتمع بصفة عامة, وفيما يتعلق بأطراف النزاع بصفة خاصة[9].
الفقرة الثانية :استقلال السلطة القضائية من خلال الدستور المغربي و ميثاق إصلاح منظومة العدالة.
قبل الخوض في المستجدات الدستورية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية من خلال دستور 2011, فيجب التأكيد على أن كافة الدساتير التي عرفتها المملكة المغربية سبق أن نصت على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية و ذلك من خلال الفصل 82 من دستور 1962, و المادة 74 من دستور 1970, و المادة 75 من دستور 1972, و المادة 82 من دستور 1996.[10]
أما بخصوص المستجدات الأخيرة, فلم تأتي من فراغ حيث شهد العالم العربي حراكا شعبيا و المملكة المغربية بدورها لم تسلم من ذلك, حيث شهدت هي الأخرى حراكا شعبيا من نوع خاص رفعت فيه مجموعة من المطالب كان أهمها التعجيل بإصلاحات جذرية و هذا ما مهد إلى صدور دستور جديد في فاتح يوليو 2011, حيث تناول هذا الأخير في بابه السابع السلطة القضائية من الفصل 107 إلى غاية الفصل 128 إضافة الى الفصل 1 بما مجموعه 22 فصل من أصل 55 متعلقة بشكل مباشر بالسلط الثلاثة مجتمعة, و بإدخال المحكمة الدستورية في الغاية, يكون مجموع الفصول المكرسة للسلطة القضائية,عادية ودستورية 28 فصل من أصل 63, مخصصة بشكل مباشر للسلط الثلاث[11], ومن هنا نستنتج أن دستور 2011 بوأ للسلطة القضائية مرتبة سامية بل أكثر من ذلك و لأول مرة نص على أن القضاء هو سلطة قضائية عكس ما كان عليه الأمر في الدساتير السابقة, و بالتالي فهذا الدستور قد حسم في الجدال الذي كان قائما في ظل الدساتير السابقة بخصوص طبيعة القضاء هل هو جهاز أم سلطة و استنادا إلى ترجمة المصطلحين (pouvoir و autorité ) إلى اللغة العربية[12].
أما بخصوص الفصول التي نصت على استقلالية السلطة القضائية في الدستور الجديد فمن جهة نجد أن الفصل 107 الذي نص بشكل صريح لا لبس فيه على أن " السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و التنفيذية " , ومن جهة أخرى أوجب الدستور كذلك على كل قاض اعتبر أن استقلاله مهدد, أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية, مع العلم أن كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال و التجرد يعد[13] خطأ مهني جسيما, بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة (الفصل 109من الدستور ), و مما تجدر الإشارة إليه أن المشرع المغربي سار على نفس النهج الذي سلكته مجموعة من التشريعات المقارنة العربية و الغربية, حيث أن المشرع الفرنسي نص صراحة على استقلال سلطته القضائية في الفصل 64 من دستوره الصادر سنة 1958, و كذلك بالنسبة للمشرع المصري الذي نص على هذا المبدأ في دستوره الصادر سنة 1971 و خاصة المادة 65 منه. و كذلك المشرع العراقي في دستور الجمهورية العراقية في المادة 88.
و مبدأ استقلال السلطة القضائية يجد صدا واسعا داخل ميثاق إصلاح منظومة العدالة, حيث يعتبر هذا الميثاق أن مبدأ استقلال السلطة القضائية هو الضامن الأساسي لحقوق الأفراد و الجماعات باعتباره هو الملجأ لرفع الجور و الظلم, و إعطاء لكل ذي حق حقه, و كذلك يعتبر الاستقلال التام للقضاء تجسيدا فعليا للبناء الديمقراطي الذي سارت في اتجاهه بلادنا, و لذلك اعتمد هذا الميثاق على ثلاثة مبادئ أساسية من شأنها الارتقاء بالعدالة إلى الأمام بصفة عامة, و السمو بالسلطة القضائية نحو استقلال تام بصفة خاصة و هي التحديث و التخليق و التأهيل.
إن مبدأ استقلال السلطة القضائية كما سبق و رأينا حظي باهتمام واسع على الصعيد الدولي من خلال القوانين الداخلية و المواثيق و المعاهدات الدولية, و المغرب باعتباره دولة نشيطة على المستوى الدولي فهي بدورها أفردت لمبدأ استقلال السلطة القضائية تأطيرا تشريعيا و واسعا من خلال الدستور و القوانين الوضعية, لكن بالنظر إلى هذا المبدأ من الناحية العملية يثير مجموعة من الإشكاليات.فهل فعلا لدينا استقلال تام للسلطة القضائية ؟ وما هي الحلول الناجعة للارتقاء بهذا المبدأ؟
المبحث الثاني : إشكالية استقلال السلطة القضائية بالمغرب و بعض الحلول الممكنة.
إن تجسيد مبدأ استقلال السلطة القضائية بالمغرب على أرض الواقع تحيط به مجموعة من الإشكاليات (المطلب الأول) وبالتالي هذه الإشكاليات تفرض علينا التفكير باقتراح حلول للحد منها (المطلب الثاني).
المطلب الأول :الإشكالات المتعلقة باستقلال السلطة القضائية
سنحاول في هذا المطلب الحديث عن الإشكالات التي ترتبط باستقلالية القضاء كسلطة (فقرة اولى) وأيضا الإشكاليات المتعلقة باستقلال القاضي كفرد (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى : استقلال القضاء كسلطة و إشكالاته.
من المسلم به أن القضاء المغربي في الظرفية الحالية كما في السابق يعاني من إشكالية عدم ثقة المتقاضين في قضائه, وأيضا التشكيك في فاعليته واستقلاله, وهو ما أثار جدالا فقهيا حول ضرورة استقلال السلطة القضائية بشكل كلي عن السلطة التنفيذية, حيث اعتبر البعض منهم أن وجود وزير على رأس وزارة العدل عوض قاض سامي هو في حد ذاته مس باستقلال القضاء وهدا الجدل أدى في بعض الدول إلى حذف وزارة العدل كبريطانيا مثلا[14], فوزير العدل في التشريع المغربي أعطيت له صلاحيات وسلطات توصف بالواسعة أحيانا, ودلك من خلال النظام الأساسي لرجال القضاء الذي على الرغم من تضمنه لكثير من الجوانب الايجابية التي تطال مبدأ استقلال القضاء, إلا انه ينطوي على جوانب سلبية سيما فيما يتعلق بانتداب القضاة من طرف وزير العدل الذي تميز فيه النص القانوني بنوع من الغموض واللبس اللذان قد يجعلان الهدف الذي من اجله منحت الصلاحية لوزير العدل لا يتحقق إذ ينحرف أحيانا عنه[15].
وأيضا من بين التدخلات الصارخة للسلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية هو رئاسة وزير العدل للنيابة العامة, وفي هذا الصدد نجد اتجاهين. الأول هو الداعي إلى فصل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية ودليلهم في ذلك أن تدخل وزير العدل في النيابة العامة ما هو إلا تدخل في السلطة القضائية بشكل كلي وذلك باعتبار أن النيابة العامة جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية’ و ينادون بإسناد رئاسة النيابة العامة للوكيل العام لمحكمة النقض باعتباره قاض كسائر القضاة وأكبرهم مرتبة, لكن هذا الحل ما فتئ أن لقي بدوره انتقادات تمحورت أساسا حول لمن ستسند مراقبة محاسبة الوكيل العام للملك وهل بإمكانه أن يستدعى للبرلمان من اجل المساءلة؟ خصوصا أننا نعلم مدى حساسية وقوة الجهاز الذي ستعهد له مهمة رئاسته, أما الاتجاه الثاني فهو الداعي إلى الإبقاء على تبعية النيابة العامة لوزير العدل و سندهم في ذلك ان هذه الاخيرة سلطة خاضعة بطبيعتها لمنطق التبعية ,وبهذا لا يمكننا أن نتصور استقلالا في ظل واجب الخضوع للتعليمات خصوصا انه لا نجد مثل هذا المقتضى لقضاة الحكم[16].
وعموما فان هذا الجدال الحاصل بين علاقة النيابة العامة بوزارة العدل والى ما يتطلبه من نقاش وتحليل, يظل موضوعا شائكا ومعقدا, زاد من تعقيده الغموض الذي جاء به نص الدستور, ولذلك وجب الانفتاح على كل المهتمين والمتدخلين في هذا المجال من اجل الوصول لخلاصات وحلول بهذا الشأن .
الفقرة الثانية :الإشكالات المتعلقة باستقلال القاضي كفرد.
إن استقلال القاضي كفرد لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان القاضي يتمتع بوضعية قانونية و معنوية ومادية تسمح له بأن يصدر أحكامه دون أدنى تأثير من أي جهة كانت سوى ضميره و القانون المفروض عليه.[17]
يشبه بعض الفقه القاضي بالقانون المجسم لأنه هو الوحيد الذي يحول نصوص القانون الجامدة و الغامدة أو المبهمة إلى حقائق واضحة[18], ولذلك يجب تمتيعه باستقلال تام من الناحية المادية و المعنوية والقانونية كذلك, و هذا ما لا نلمسه بالنسبة للقاضي الوطني على أساس مجموعة من العوامل.
فأول عامل هوالترقية, حيث أنه لا يتصور أن يتحقق استقلال القضاء ما دام أن ترقية القضاة تتوقف على التنقيط الذي يتولاه رئيس المحكمة, لأن الاستقلال يقتضي أن لا يكون القاضي محكوما بالمنطق الرئاسي لأن القناعة القضائية هي أهم ما يميز عمل القضاة[19], بل الأخطر من ذلك أن هذه الترقية تقترن بالإنتاج السنوي للقاضي أي بالاعتماد على الكم لا الكيف, و بالتالي نكون هنا قد ضربنا الهدف من القضاء ككل عرض الحائط و نصبح أمام أحكام يصدرها القاضي جائرة و ذلك لتحقيقه كما يؤهله للترقية.
أما العامل الثاني فيتعلق بالوضعية المادية للقاضي, فمن المتفق عليه على أن الأجور المتدنية لا تسمح بداهتا للقضاة بالعيش حياة كريمة في المدن الكبرى, التي تعرف بارتفاع أثمانها و أسعارها بدءا من السكن و انتهاءا باللباس اللائق بصورة القضاة و القضاء ,وهو ما يترتب عنه فتح أبواب الجحيم و مد اليد و الرشوة على مصراعيه للقضاة و بالتالي فقدان استقلاليته و استقلالية ضميره[20].إضافة لوجود بعض الخروقات لبعض الجهات الإدارية تجسد دورها الخفي في التحكم إما بحسن نية أو سوءها في الوضع المادي للقضاة.
أما العامل الأخير فيتمثل في كثرة الملفات التي يبث فيها القاضي كل أسبوع وكل شهر و كل سنة, خاصة في بعض الأقسام كمدونة الأسرة, الوضع الذي لا يساعد في تحقيق استقلالية القضاء بالمعنى الواسع للمصطلح, إذ كيف للقاضي أن يفكر في هذا المبدأ و هو ملزم بالنظر في ملفات كثيرة و مجبر على تحرير الأحكام المتعلقة بها, دون نسيان ما يقوم به القضاة من أبحاث و إجراءات و معاينات.
وفي الختام تجدر الإشارة الى انه إذا كنا نريد أن يكون القاضي مستقلا فيجب أن يكون ذو وازع ديني ويتحلى بالضمير الحي ويجعل أمام عينيه دائما القسم الذي أداه قبل مباشرة عمله.[21]
اذا فبوجود هذا الكم الهائل من الإشكالات التي تحول دون بروز مبدأ استقلال السلطة القضائية على أرض الواقع وبشكل فعلي فإنه يتعين علينا أن نتساءل ونبحت عن بعض الحلول المناسبة ولو لحل بعض هذه الإ شكالات وهذا ما سنحاول تناوله من خلال المطلب الأول ولو بشكل مقتضب.
المطلب الثاني: بعض الحلول لضمان استقلالية السلطة القضائية
حينما نريد أن نتحدث عن بعض الحلول الناجعة للارتقاء باستقلالية السلطة القضائية فانه يتعين علينا الخوض أولا في بعض الحلول المؤسساتية (فقرة أولى), ثانيا في بعض الحلول التي تخص شخص القاضي كفرد (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى : بعض الحلول المؤسساتية .
إن الاستقلال المؤسساتي للقضاء يعني أن الهيئة القضائية يجب أن تكون مستقلة عن غيرها من الافرع الحكومية الأخرى, وبالتالي يتعين أن يكون هناك استقلال بالنسبة للمسائل الإدارية حيث يقترح أن تكون السلطة القضائية قادرة على إدارة نفسها بنفسها, وذلك عن طريق إصدار قانون تنظيمي لهذه الأخيرة(السلطة القضائية) يستجيب للمبادئ الأساسية الدولية ويستجيب لأحكام الدستور المغربي .
أنا من الناحية المالية, لكي يتفعل الاستقلال المالي التام لاستقلال السلطة القضائية , فانه يقترح إدراج ميزانية المجلس الأعلى للسلطة القضائية في الميزانية العامة للدولة, وان تسند وظيفة الأمر بصرف الميزانية إلى رئيس محكمة النقض واستحداث منصب الأمين العام للمال يتم تعيينه من القضاة الذين قضوا عشر سنوات على الأقل في الخدمة الفعلية بظهير باقتراح مشترك للرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام بها[22]. وكذلك يجب أن تنفرد السلطة القضائية بمهمة توفير خزانات داخل المحاكم نفسها بنفسها, وتوفير أيضا المدونات والجرائد الرسمية والمطبوعات القانونية والإدارية والأدوات المخصصة للعمل حتى تتاح للقضاة فرصة الاشتغال بكل ارتياح واطمئنان .كما يعني الاستقلال المؤسساتي كذلك الاستقلال بالنسبة لعملية اتخاذ القرارات وذلك بتوفير مجموعة الضمانات كالحد من التدخلات الغير اللائقة واللامبررة في الإجراءات القضائية, وأيضا على جميع مؤسسات الدولة أن تنصاع للأحكام القضائية التي تصدر ضده, وجعل اختصاص النظر في المسائل ذات الطابع القضائي تنفرد به السلطة القضائية فقط دون أن تشاركها في ذلك أي مؤسسة أخرى تنتمي للإدارات الأخرى.
الفقرة الثانية : بعض الحلول لضمان استقلالية القاضي كفرد.
أن التفكير في بعض الحلول التي من شانها ان تضمن استقلالية القاضي كفرد, فلا بد بل ومن الضروري أن تشمل التفكير التعيين, الترفيه, الوضعية المالية للقاضي , ثم كثرة الملفات.
فبخصوص التعيين, ونظرا لحساسية منصب القاضي يجب ان يكون من يقع عليه اختيار شغل الوظائف القضائية ذو نزاهة وكفاءة وحاصلين على تدريب أو مؤهلات عالية في القانون, ويجب أن تكون طريقة تعيين القضاة معتمدة على معايير موضوعية أهمها الكفاءة المهنية بغض النظر عن أرائهم السياسية وبعيدا عن كل أشكال التمييز والمحسوبية والزبونة...
أما بخصوص الترقية, فيتعين صياغة مقتضيات جديدة تلغي الترقية المتوقفة على رأي وتنقيط رؤساء المحاكم, لان في ذلك ضمانا لإعمال الضمير والقناعة الشخصية ولاستقلال القضاة في اتخاذهم لما يرونه مناسبا من قرارات وتدابير, وكذلك يتعين ان لا تبقى مسالة ترقية القضاة مقترنة بإنتاجهم السنوي, واعتماد معيار الكيف بدل الكم[23] . أما فيما يتعلق بالوضعية المادية للقاضي كفرد, فيذهب الدكتور عبد الكريم الطالب إلى القول على انه يجب إعادة النظر في الوضعية المادية للقضاة وتوفير الشروط الملائمة للعمل, واستتباعا ينبغي الزيادة في رواتب القضاة بما يليق ودورهم الحيوي والتنموي, وتهييء الظروف المناسبة للعمل بشان إعادة النظر في بنايات المحاكم, لان عدد غير يسير من المحاكم لا تعكس الهبة التي من المفروض أن يتمتع بها القضاء سيما وان المتقاضين ينطلقون من ظروف عمل القضاة للحكم على هبتهم وقيمتهم الاجتماعية ودورهم داخل المجتمع...
وأخيرا بخصوص كثرة الملفات فيرى بعض القضاة أن كثرة الملفات التي تثقل كاهل القضاء كل يوم وأسبوع لا يساعد على الرقي باستقلالية السلطة القضائية بالمفهوم الواسع لها... وهكذا فالقاضي يصبح يفكر فقط في البت في الملفات التي أوكلت إليه دون التفكير في هذا المبدأ (استقلال السلطة القضائية) خصوصا وان القاضي يقوم بعدة إجراءات أخرى كالمعاينات والأبحاث والإجراءات...
وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن مهمة الرقي باستقلال حقيقي للسلطة القضائية بالمغرب يبقى ملقى على عاتق كافة المؤسسات الوطنية وكافة مكونات المجتمع ابتداء من المجتمع المدني إلى أعلى مؤسسة في البلاد.
خـاتـمـــة :
وختاما، فإن تجربة قضاء القرب لا يمكن الحسم في مدى نجاعتها من عدمها، باعتبارها تجربة لم تأخذ حظها بعد من الإستقرار والتقييم. إلا أنه ما يجب التأكيد عليه هو ضرورة توفير الظروف والوسائل الكفيلة بإنجاح هذه التجربة، سواء من حيث الوسائل المادية أو الوسائل الموضوعية والمتمثلة في التقييم والمراقبة، ولو أن هذا القانون مازال متوقفا على التعديلات التشريعية المتمثلة في مشاريع القوانين المتممة له التي تتقدم بها الوزارة، كان آخرها مشروع القانون المغير والمتمم للمادة السادسة والذي يعيد النظر في مجانية قضاء القرب بالنسبة للأشخاص المعنوية.
*ملحق
vمقابلة مع السيد أحمد الفيلز بن عبد السلام رئيس غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف و مستشار مقرر في المادة العقارية.
إيمانا بكون أن الواقع العملي هو محك كل مبدأ دستوري أو قاعدة قانونية ,فإن رجل القانون سواء أكان قاضيا أو محاميا أو باحثا أو أستاذا جامعيا فإنه لا شك أنه يقيم هذا المبدأ أو هذه القاعدة من خلال الواقع العملي.....
ما هو مفهوم استقلال السلطة القضائية في منظوركم الخاص؟←
إن استقلال السلطة القضائية مقصده أن تحظى هذه السلطة باستقلال إداري ومادي وكذلك أن يحظى القاضي كشخص باستقلال نفسي دون أي تدخل أو تضييق من أي جهة أو سلطة أخرى كيفما كانت
وأضيف كذلك على أن استقلالية القاضي هي مسألة نفسية تمس القاضي في كرامته القضائية وإحساسه وعمله القضائي وبالتالي فإن نفسية القاضي والممارسة القضائية يربط بينهما خيط حساس جدا لا يتعين المساس به أو تجاوزه وإلا نكون أمام تضييق فعلي وتدخل في عمل القاضي بشكل مباشر....
هل يمكن أن تدلنا على بعض التدخلات العملية ؟ ←
في الحقيقة أن الواقع العملي زاخر بهذا النوع من التدخلات في عمل السلطة القضائية أو على الأقل التضييق عليها من بينها .
_ السلطة القضائية لا تنفرد بتوفير حاجيات العمل بنفسها, وبالتالي في غالب الأحيان يضطر القاضي إلى العمل بالوسائل المتاحة له لأنه إذا ما أراد (القاضي ) الحصول على أي وسيلة من وسائل العمل مثلا كالأوراق البيضاء فإنه يتعين عليه توجيه طلبا بذلك إلى المديرية الفرعية, هذه الأخيرة ليس لها أي طابع قضائي لأنها تابعة إلى وزارة العدل و هذا كله بعد استيفاء مجموعة من الإجراءات كالتوقيع ...
_ الجمعية العمومية كذلك حيث أنها ليس لها أي نص قانوني يأطرها تبقى سلطة المشرف هي القائمة حيث يتحكم في توزيع الأشغال
_ في القانون أعطيت السلطة للانتداب للرئيس المشرف داخل الدائرة القضائية, فيمكن بذلك للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف أن ينتدب القضاة من المحاكم الابتدائية الداخلة في إطار هذه الدائرة, و هذه النقطة لها ارتباط وثيق بمسألة التنقيط حيث أن هذا الأخير يبقى سيف مسلط من الرئيس على القاضي .... وبالتالي فإنه في حالة امتناع القاضي المنتدب من طرف الرئيس عن القيم بعمل طلبه منه فقد يتعرض لمسألة نقطة التنقيط رغم أنه جاد و نزيه في عمله...
حاليا المنظومة التشريعية المغربية شهدت حراكا واسعا و بالتالي هل هذه النصوص القانونية الدستورية و التنظيمية المؤطرة لمبدأ استقلال السلطة القضائية كافية للرقي بهذا المبدأ إلى المستوى المطلوب ؟
_ الدستور حاليا يمكن القول على أنه كافي للرقي بالسلطة القضائية إلى استقلال حقيقي إذا ما طبق مبدأ أن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية و المشكل حاليا موجود في النصوص التنظيمية حيث أن هذه المقتضيات الدستورية يجب أن تواكبها نصوص تنظيمية تؤثث لمبدأ سلامة تطبيق النص الدستوري المذكور و ذلك بتهيئ الظروف اللازمة و المواكبة على جميع المستويات سواء منها المادية أو النفسية أو الإدارية القضائية و في غياب هذه النصوص التنظيمية فان لفظ استقلال السلطة القضائية يبقى مشلولا يمشي على رجل واحدة (السلطة القضائية و استقلالها الشبه التام)
←هل تظم صوتك للاتجاه الذي ينادي باستقلال النيابة العامة عن وزير العدل أم أنك مع هذه التبعية؟
_ صراحة أنا أريد أن تبقى النيابة العامة خاضعة لرقابة وزير العدل لأن ذلك لا يشكل أي تدخل في استقلالية القضاء لأن مبدأ استقلال السلطة القضائية ضامنه الأساسي هو الملك و الملك هو أعلى سلطة في البلاد إضافة إلى أن السيد وزير العدل في بعض الأحيان يكون أرحم من القاضي في كثير من الأشياء و بالتالي أنا أظم صوتي إلى اللذين ينادون بتبعية النيابة العامة برئاسة وزير العدل .
لائحة المراجع المعتمدة
الكتب القانونية :
µعبد الكريم الطالب :
j "التنظيم القضائي المغربي"، دراسة عملية، الطبعة الرابعة، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، سنة 2012.
k "الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية"، طبعة 2014.
الطيب الفصايلي : "التنظيم القضائي في المغرب"، الطبعة الثالثة، يوليوز 2002
محمد بن حساين : "التنظيم القضائي المغربي، الطبعة الثانية، سنة 2007
ü النصوص القانونية :
µالنظام الأساسي لرجال القضاء.
µقانون رقم 42.10 المتعلق بإحداث قضاء القرب.
µقانون الإلتزامات والعقود.
µقانون السلطة القضائية لجمهورية مصر العربية رقم 46 لسنة 1972.
µالقانون عدد 29 المؤرخ في 14 يوليوز 1967 المتعلق بنظام القضاء والمجلس الأعلى للقضاء والقانون الأساسي للقضاة.
الفهرس
مقدمــة :
المبحث الأول : استقلال القضاء
المطلب الأول : مفهوم استقلال السلطة القضائية .
الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية .
الفقرة الثانية : استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية.
المطلب الثاني : استقلال السلطة القضائية من خلال المواثيق الدولية و الدستور المغربي.
الفقرة الأولى : استقلال السلطة القضائية من خلال المواثيق و المعاهدات الدولية.
الفقرة الثانية :استقلال السلطة القضائية من خلال الدستور المغربي و ميثاق إصلاح منظومة العدالة.
المبحث الثاني : إشكالية استقلال القضاء في المغرب و بعض الحلول الممكنة.
المطلب الأول :الإشكاليات المتعلقة باستقلال القضاء
الفقرة الأولى : استقلال القضاء كسلطة و إشكالاته.
الفقرة الثانية :الإشكالات المتعلقة باستقلال القاضي كفرد.
المطلب الثاني: بعض الحلول لضمان استقلال السلطة القضائية
الفقرة الأولى : بعض الحلول المؤسساتية .
الفقرة الثانية : بعض الحلول لضمان استقلالية القاضي كفرد.
خاتمـــة :
ملحق :.....................................................................................................................................16
لائحـة الـمـراجـع
الفهرس :..................................................................................................................................22